تحيي الجزائر في 16 أفريل من كل عام يوم العلم، حيث تجعله فرصة لتمجيد العلم والعلماء وتخليد ذكراهم والتذكير بأهم إنجازاتهم، وهي محطة للوقوف عند جهود الدولة الرامية إلى تدعيم وتشجيع التحصيل العلمي، كما أنها مناسبة لتثمين إسهامات العلامة الراحل رائد النهضة الجزائرية عبد الحميد بن باديس، الذي ساعد على إخراج الشعب الجزائري من الحصار وسياسة التجهيل التي فرضها عليه المستعمر الفرنسي آنذاك، وهي فرصة هامة من كل سنة، حيث تسمح للمواطن الجزائري والمثقف خصوصا بأن يمر عبر محطة تاريخية هامة ويسترجع الأحداث بهدف استخلاص العبر، وذلك لكونه حلقة وسطى بين الماضي والحاضر تربط بين الأجيال وتضمن تواصلهم المستمر مع خط الزمن، لتشبع بذلك مقتضيات الحاجة الإنسانية إلى الحرف والكلمة والمعلومة.
العلامة ابن باديس..جبل في العلم والنضال
ويصادف هذا الأسبوع يوم أطفأت شمعة رائد النهضة العلمية والثقافية والإصلاحية في الجزائر، العالم الفذ عبد الحميد بن باديس الذي رفض كل مساعي فرنسا للاندماج وأعلن شعاره بأن الجزائر عربية مسلمة ، وهو رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تأسست في العام 1931، وكان لها بذلك دورا بارزا في إحياء عقول وضمائر الناس، وإنارة فكرهم وإصلاح ما اعترى البلاد في تلك الفترة العصيبة، فترة التكالب الاستعماري على بلادنا، ومحاولاته الحثيثة لسلخ كامل الأمة عن معتقدها الفكري والديني، وهو الأمر الذي لم يسمح بحدوثه علماء الأمة، وقدموا أنفسهم وأموالهم وأبنائهم فداء للوطن، فقد لا يكفي أن نتوقف عند إنجازاتهم الخالدة في يوم من كل سنة، لكن يكفيهم أن نمتثل بما امتثلوا به، ونحافظ على ما بنوه بكبح بؤر الجريمة والخلافات والفتن الاجتماعية والسياسية من أجل الحفاظ على الوحدة التي تقوي ساعد أي بلد، يحاول فيه في كل مرة فاشلة دعاة التفرقة و التكالب على السلطة والأيدي الخفية سواء الداخلية أو الخارجية نهشه.
الشيخ بن باديس..السياسي المحنك
وكان ابن باديس رجل سياسة من الطراز الأول، حيث استطاع استنباط خطاب السلف الصالح واستخلف ثلاثة عشر أصلا من أصول الولاية العامة في الإسلام، والتي تلتقي فيها أحكام الإسلام ومقاصده وقيمه بمبادئ الديمقراطية، التي يمكن أن تساهم في قيام أنظمة عادلة تستند إلى القيم الإسلامية وتستلهم المبادئ والآليات الديمقراطية، التي طورتها التجربة البشرية على مدار التاريخ، كما أن العلامة عمد إلى تفسير كيفية دعم الإسلام للكرامة البشرية وحقوق الإنسان والسبل التي تمكن المواطن من المساهمة في العملية الديمقراطية بكل حرية ومساواة وتسامح واحترام الآخر والقبول بالتنوع والاختلاف وإدارة الحوار بشكل سلمي، ومن ثم فإن الديمقراطية كانت الجوهر والأساس عنده في مواجهة السلطة الاستعمارية ومخططاتها من جهة والانحطاط الذي أصاب الأمة آنذاك، ويُعدّ الجانب التعليمي والتربوي من أبرز مساهمات ابن باديس التي لم تقتصر على الكبار، بل شملت الصغار أيضًا، وتطرقت إلى إصلاح التعليم تطوير ومناهجه، وكانت المساجد هي الميادين التي يلقي فيها دروسه، مثل الجامع الأخضر، ومسجد سيدي قموش، والجامع الكبير بقسنطينة، وكان التعليم في هذه المساجد لا يشمل إلا الكبار، في حين اقتصرت الكتاتيب على تحفيظ القرآن للصغار، فعمد ابن باديس إلى تعليم هؤلاء الصغار بعد خروجهم من كتاتيبهم.
ثورة كبيرة في مجال البحث العلمي
وعلى خطى العلامة عبد الحميد ابن باديس أولى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة اهتماما كبيرا بالعلم والعلماء منذ وصوله إلى سدة الحكم بحيث سخر كل إمكانيات الدولة الجزائرية المادية والبشرية لخدمة القطاع والعمل على تطويره لما له من علم حول أهميته في بناء القادة المستقبليين للوطن، وما تشير إليه الإحصائيات المقدمة ليست إلا نتائج لإحدى عشرة عاما قضاها رئيس الجمهورية في قيادة البلاد إلى صواب الاختيار، فقد بادرت الجزائر في العقد الأخير إلى مواصلة الإصلاحات ضمن مخطط خماسي بغرض بناء قاعدة حضارية صلبة، تمكن الجزائر من التموقع داخل المنظومة الدولية الحديثة، بشيء من الفاعلية، وهو ما وضع له الرئيس عدد من المحاور أهمها إيلاء التعليم العالي دوره الأساسي في الاضطلاع بحل مشكلات البلاد، والدفع بأداء المنظومة التربوية إلى الأمام.
برامج تواكب التطور العالمي
تطلع مبدأ المقاربة بالكفاءات في تقديم البرامج التربوية قائمة الإصلاحات المسطرة، والتي ترتكز حوله جميع البرامج المقررة من طرف المختصين على مستوى ما يعرف باللجنة الوطنية للمناهج والبرامج، وكذا الطرق المستحدثة في عملية التعليم، على اعتبار أنها تسمح للتلميذ بالمشاركة في تقديم الدرس من خلال دفعه للبحث عن المعلومة، وعدم الاكتفاء بما يقدمه المعلمون والأساتذة الذين يحول دورهم إلى التوجيه والتقويم، وهو العامل الذي سيعمل على توسيع إدراك التلميذ وإطلاق العنان لخياله العلمي، سيما بعد تزويد المدرسة الجزائرية بالتكنولوجيا الحديثة، التي تسمح للتلميذ بولوج عالم المعلوماتية والعلوم المتنوعة والتفتح على إنجازات الخبراء، حيث يترقب في جوان 2010 تتويج المنظومة التربوية بامتحان في الإعلام الآلي في شهادة التعليم المتوسط، كما سيتم إدراجها في شهادة البكالوريا لدورة 2012 كمادة مستقلة، وتحسبا لهذا سيتم تجهيز كل الإبتدائيات بمخابر تضم أجهزة للإعلام الآلي تدرس فيها المادة لساعة أسبوعيا، بالإضافة إلى تعميمها على الإكماليات وتدعيم الثانويات بمخابر إضافية التي ستستفيد من ساعتين تدريس في المادة، كما يعمد القائمون وبرعاية خاصة من طرف رئيس الجمهورية إلى وضع برامج خاصة عبر شبكات الانترنت تمكن الأولياء من الإطلاع على الدروس والتمارين المقدمة لأولادهم وتمكينهم من معرفة النتائج المتحصل عليها دون عناء التنقل إلى المؤسسة التربوية.
هياكل بيداغوجية في المستوى
أما في إطار المنجزات والهياكل فقد تم إنجاز قرابة 4000 مدرسة ابتدائية وحوالي 2000 إكمالية وأكثر من 550 ثانوية يضاف إليها ما بذل من جهود في مجالي النقل والإطعام المدرسيين، فيما شهد قطاع التكوين المهني فتح أكثر من 260 مؤسسة، أما في التعليم العالي فقد تم تسجيل إنجاز أكثر من 600.000 مقعد بيداغوجي وقرابة 300.000 بقعة إيواء لفائدة الجامعة التي تجاوز فيها عدد الطلبة المليون، بالإضافة إلى 19 مؤسسة جامعية تمت ترقيتها إلى جامعات جديدة، و سيشهد قطاع التعليم العالي والبحث العلمي بالجزائر في السنوات القادمة تدعيم طاقاته الاستيعابية، من خلال إنجاز عدد من الوحدات الجامعية الجديدة منها كلية للحقوق بسعيد حمدين ببئر مراد رايس، والتي تتسع لـ 10 آلاف مقعد بيداغوجي وكلية للطب بابن عكنون تتسع لـ 10 آلاف مقعد وكلية الإعلام والاتصال بحيدرة تسع لـ 2000 مقعد بيداغوجي ومعهد عال للتجارة بحيدرة يتسع لـ 1000 مقعد.
توفير كل الإمكانيات
وبهذا تكون قد تحققت في هذه الفترة أهداف إصلاح المنظومة التربوية، وذلك بعد خمس سنوات فقط من الشروع في العملية التي بادر إليها رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، حيث تم تطبيق الإصلاح كلية في مجالات هيكلة التعليم وإعادة النظر في البرامج والمناهج وتكوين الأساتذة، كما مكّن إصلاح الكتاب المدرسي من توفير كتب ذات نوعية وبكميات كافية وأحيانا إضافية والتي سمحت بسد كل احتياجات التلاميذ، كما سمح البرنامج لـ 71 بالمائة من التلاميذ عبر ولايات الوطن بالاستفادة من الإطعام المدرسي سيما بولايات الجنوب والهضاب العليا، والذي ينتظر أن تصل نسبته إلى حدود 90 بالمائة في السنوات القليلة القادمة.
الجزائر بدون أمية
شرعت الجزائر في العقد الأخير في تنفيذ إستراتيجية وطنية للقضاء على الأمية ، وتهدف هذه الإستراتيجية إلى خفض معدلاتها إلى حدود النصف بحلول سنة 2016، وتعول الجزائر في برنامجها هذا على مختلف الهيئات والجمعيات المدنية لتحقيق الأهداف المرجوة من هذه الإستراتيجية، وإشراكها ميدانيا للقضاء نهائيا على هذه الظاهرة التي حتمتها سنوات من سياسة التجهيل التي فرضها المستعمر الفرنسي، وتابعها على خطاه الإرهابيون المتطرفون الذين أرادوا حياكة مؤامرات عدة ضد دولة الشهداء، وتجهيل أبناء شعبها لولا وقوف أصحاب الحق حكومة وشعبا وتصدوا لهذه المحاولات الواهية بحنكة العلماء والخبراء السياسيين، حيث يصل معدل التسجيل بأقسام محو الأمية المندرجة في إطار هذه الإستراتيجية إلى 500 ألف مسجل سنويا، وقد بدأت هذه الإستراتيجية تؤتي ثمارها، بدليل الانخفاض المستمر المسجل ضمن إحصائيات توضح نسبة الأمية في وسط الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين سن 15 و25 سنة، ويتواصل العمل الدءوب من خلال البرامج الحديثة في مجال التعليم في سبيل القضاء على هذه الظاهرة كليا في الجزائر.
المواصلة على درب الأجداد واجب
ومن هذا المنطلق فعلى الآباء والأمهات مسؤولية كبيرة في تعليم أولادهم محبة العلم وأهله وترسيخها فيهم باعتبارها ضرورة تتطلبها متغيرات العصر والنظم العالمية المتبعة خاصة في مجال الشغل، والمهم أن يعمل أرباب الأسر المدنية والتربوية على رفع المستوى الثقافي للمتمدرسين، والرقي بهم عن كل الأفكار السلبية التي تحيط بهم في مجتمعات قاست من ويلات الإرهاب، وسمح بعض أفرادها لأنفسهم بالتخلي عن أحلامهم العلمية بكل بساطة، ثم يحملون الدولة والمجتمع مسؤولية بطالتهم وفقرهم..؟، وتبعا لهذا على الشباب الطموح في مستقبل زاهر وعلى عدة مستويات أن يكد ويجتهد في المجال الذي يريد الرقي فيه، ويصنع لنفسه إسما في خانة الكبار، والأكيد أن ذكريات العناء ستزول بأول نتيجة إيجابية تحقق على المستوى العلمي والعملي، ولا يخفى أن التلاميذ في هذه الأيام طالما تتعدد شكاويهم بخصوص المعلمين خصوصا المبتدئين منهم، وقد يكون لهم بعض الحق في بعض التجاوزات الحاصلة في هذه المهنة، و الذي يرجع في بعض الأحيان إلى ضعف مستوى المعلم وشروطه التي يفرضها في أقسام الدراسة، خصوصا بعد البرنامج الذي أثقل كاهل التلاميذ بمحافظ تزيد عن أوزانهم بعدة كيلوغرامات، ناهيك عن جملة التمارين التي تثقل عقولهم وقد لا يستوعبون منها إلا القليل، ورغم ذلك يتوجب احترام المعلم وتقديره والأخذ بيده ومساعدته على التأقلم ليكون معلماً جيدا، ولن يتحقق ذلك إلاًَ بالتقويم المستمر وتقديم البرامج التدريبية وعقد المؤتمرات والندوات لتنمية قدراته وتطويرها، وعلى الطالب المجتهد أن لا يسمح لأي ظرف من الظروف أن يثنيه عن هدفه، بحيث ستعمل هذه الصعوبات على تقوية عوده وتوسيع خبراته في الحياة، والتي سيتمكن من خلالها يوما ما من تبوء المراكز القيادية في بلده الجزائر.